تشهد الأسواق المالية العالمية، وتحديدًا في الولايات المتحدة، حالة من التفاؤل المفرط منذ بداية العام الجاري، حيث يتجاوز مؤشر S&P 500 باستمرار مستويات قياسية جديدة. لكن وراء هذا التفاؤل، يزداد القلق بين عمالقة الاقتصاد والمحللين، وعلى رأسهم المخضرم غاري شيلينغ الذي أطلق مؤخرًا تحذيرًا مثيرًا حول إمكانية حدوث تصحيح عنيف قد يفقد الأسواق الأمريكية ما يصل إلى 30% من قيمتها الحالية. فهل تكون الأسواق بالفعل أمام نقطة انعطاف تاريخية؟ وما هي مؤشرات خطر الانهيار المحتمل؟من هو غاري شيلينغ؟ ولماذا يُحظى بصدى كبير بين المستثمرين؟يحظى غاري شيلينغ بمكانة راسخة بين الاقتصاديين الأمريكيين منذ أكثر من أربعة عقود، بفضل قدرته على قراءة مؤشرات الاقتصاد الكلي، وتنبؤاته الدقيقة حول الأزمات الكبرى. اشتهر بتوقعه لانفجار فقاعة الإسكان عام 2008 قبل سنوات من وقوعها، محققًا أرباحًا ضخمة وشهرة واسعة كمستشار للمؤسسات المالية ووسائل الإعلام الاقتصادية.وفي ظل الارتفاعات القياسية الراهنة، ينظر المستثمرون لتحذيرات شيلينغ بجدية بالغة، حيث يُصنف ضمن القلة القادرة على التمييز بين فورة التفاؤل الطبيعي والدخول في دائرة المخاطر غير المحسوبة بالسوق.سوق الأسهم يعيش حالة من المضاربة الشديدةتشكل الزيادة الكبيرة في أسعار الأسهم، وخاصة شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية، محور التحذيرات الأخيرة لغاري شيلينغ. يصف السوق الحالي بأنه "مليء بالمضاربة"، ويؤكد أن ما يدفع المؤشر صعودًا ليس الأسس الاقتصادية أو أرباح الشركات، بل "تدفق السيولة واستثمارات المضاربين الباحثين عن الربح السريع".ويعلن شيلينغ أن القطاعات السائدة مثل الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية تمثل "زخرفة اقتصادية" وليست الأجزاء الأساسية الداعمة لاقتصاد حقيقي متماسك. "هذه ليست قوة الاقتصاد، بل مجرد زخارف تظهر في نهاية الدورات الاقتصادية الصاعدة، وتكون مقدمة لانفجار الفقاعة"، بحسب تعبيره.تحذيرات استراتيجية من بنوك الاستثمار: مؤشرات الخطر تتزايدلا ينفرد شيلينغ في تشاؤمه؛ فقد أظهرت تقارير حديثة صادرة عن بنك أوف أمريكا أن أكثر من 60% من مؤشرات السوق الهابطة تومض باللون الأحمر، وهي نسبة تاريخيًا سبقت العديد من انعطافات السوق الكبرى.يؤكد فريق الأبحاث بقيادة سافيتا سوبرامانيان أن تقييمات الأسهم باتت "مرتفعة جداً على جميع المقاييس"، فالمؤشر يتداول حاليًا فوق مستويات فقاعة الإنترنت (2000) بحسب 9 مقاييس مختلفة. أما مؤشر وارن بافيت، الذي يقيس القيمة السوقية الإجمالية مقابل الناتج المحلي، فقد تجاوز 200% للمرة الأولى منذ ذروة dot-com، والذي اعتبره بافيت نفسه علامة تحذير خطيرة.هيمنة شركات التكنولوجيا والطفرات غير المدعومة بإنتاجية حقيقيةمع صعود أسهم الشركات السبعة الكبار: ميتا، أمازون، نفيديا، ميكروسوفت، آبل، تسلا، ألفا بت، ارتفع تركيز السوق إلى مستوى قياسي، حيث تمثل هذه الشركات وحدها حوالي 34% من الوزن النهائي لمؤشر S&P 500، بينما يبلغ وزن أعلى عشر شركات أكثر من 38%.ويعد هذا التركيز عالي الخطورة، لأن أي تراجع في أداء إحدى الشركات الكبرى قد ينعكس بشكل حاد على المؤشر ككل.ولا تقتصر المشكلة على الأسعار المرتفعة، بل تمتد أيضًأ إلى ضعف النمو الفعلي للأرباح، حيث فاقت أسعار الأسهم معدلات نمو الأرباح بكثير، معتمدين على توقعات مستقبلية قد لا تتحقق فعلًا.التحليل الفني يظهر أن مؤشر CAPE بلغ مستويات أعلى من متوسطه التاريخي بنسبة تزيد عن 45%، ما يشابه ظروف ما قبل الانهيار في الأزمات السابقة.هل الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة فرصة أم فخ؟لا شك أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قدمت قفزات هائلة فعلاً في الإنتاجية لبعض الشركات، مثل: نيفيديا، وميكروسوفت، وأسهمت وحدها بأكثر من 1% في نمو الناتج المحلي الأمريكي في النصف الأول من 2025. ومع ذلك، يحذر شيلينغ من أن هذا النمو يتسم بالطابع المضاربي، إذ تتضاعف تقييمات الشركات بوتيرة سريعة لا تدعمها أرباح فعلية أو نتائج مالية قوية.أما العملات الرقمية، وعلى رأسها البيتكوين، فقد ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة مدعومة بالتصورات حول تحول عالمي في التجارة والمال خارج منظومة الدولار. لكن شيلينغ يؤكد أن هذه الأسواق "أكثر هشاشة"، لأن قيمتها تقوم أساسًا على المضاربة والثقة لا على أساس إنتاجي أو اقتصادي مستقر.سوق العمل والاستهلاك الأمريكي: بوادر التباطؤإلى جانب مؤشرات السوق، يشير شيلينغ إلى أن سوق العمل الأمريكي بدأ يُظهر علامات ضعف نسبية، إذ حافظ معدل البطالة على انخفاضه النسبي، لكن نمو الأجور يتباطأ، وارتفعت ديون المستهلك الأمريكي إلى مستويات قياسية مع استمرار الأسعار المرتفعة والتضخم.هذا الخليط من التباطؤ في النمو وإرهاق المستهلكين يُنذر بإمكانية انتقال الأسواق إلى مرحلة ركود معتدل، يرافقها تصحيح في أسعار الأسهم ونزوح للاستثمارات نحو الأصول الآمنة.كيف سيكون التصحيح وفقًا لتحذيرات غاري شيلينغ؟توقع شيلينغ أن التصحيح القادم لن يكون مفاجئًا أو كارثيًا بالضرورة، بل أقرب إلى سلسلة تدريجية من عمليات البيع، تنطلق من فقدان الثقة في أسهم التكنولوجيا ومن ثم تنتشر إلى بقية القطاعات، وفي حال تحقق تصحيح بنسبة 30%، سيهبط مؤشر S&P 500 إلى مستويات تقارب 4,700 نقطة، والذي يعني محو مكاسب العامين الماضيين بالكامل.محللو بنك أوف أمريكا يدعمون هذا السيناريو، مشيرين إلى خطر حدوث عمليات بيع قسرية من قبل الصناديق الاستثمارية الكبرى، إذا تزايدت اضطرابات سوق الدين أو ارتفعت تكاليف الاقتراض بشكل فجائي، في هذه الحالة، قد يشهد السوق موجة بيع سريعة تذكرنا بأزمة مارس 2020.الدولار والدين الحكومييشدد شيلينغ على أن الدولار الأمريكي سيظل مُهيمنًا في النظام المالي العالمي، رغم محاولات الدفع نحو بدائل في آسيا وأوروبا، ويؤكد أن غياب منافس حقيقي وضعف اليورو واليوان يبقيان الدولار في مكانته.في الوقت نفسه، ينبه إلى ارتفاع الدين الحكومي الأمريكي المستمر، والذي أصبح قنبلة مؤجلة قد تؤثر في الأسواق إذا لم تعُد الحكومة إلى سياسات أكثر انضباطاً في الإنفاق والتمويل، والذي يهدد بجعل الأسواق أكثر هشاشة أمام أي أزمة مفاجئة.رؤية فنية ومالية للمستقبل القريبمن منظور التحليل الفني، سجلت مؤشرات الزخم والتقلب (Momentum & Volatility) مستويات تاريخية مرتفعة، ما يعني أن أي تقلب بسيط قد يتحول إلى موجة بيع ضخمة إذا فقد المستثمرون الثقة.وتتوقع بعض النماذج الإحصائية حدوث موجة تصحيح بين الربع الأخير من 2025 والنصف الأول من 2026، خاصة إذا انخفضت الأرباح أو بدأت الشركات الكبرى بالإعلان عن نتائج أقل من التوقعات.ما الذي ينتظر المستثمرين بناءًا لشيلينغ وبنك أوف أمريكا؟تشير تحذيرات شيلينغ وبنك أوف أمريكا إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة للعام المقبل:تصحيح مركزي بنسبة تصل إلى 30%، يؤدي إلى عودة المؤشرات إلى مستويات تاريخية أكثر واقعية وخلق فرص جديدة للمستثمرين بعد الهبوط.ركود اقتصادي متوسط المدى، يرافقه تراجع تدريجي في النشاط الصناعي وتباطؤ في النمو يصعب الخروج منه سريعًا.إعادة توزيع الاستثمار نحو القطاعات التقليدية، بعيدًا عن التقنية والمضاربة الرقمية، مع عودة الاهتمام بالصناعات الأساسية والطاقة.في ظل تصاعد المضاربات ومؤشرات التحذير، يبقى مستقبل الأسواق الأمريكية غامضًا وسط القلق والترقب، فهل نشهد قريبًا تصحيحًا تاريخيًا يعيد الأمور إلى واقعها؟