مع التطورات التكنولوجية اليومية، تشهد طرق الوصول إلى المعلومات تغييرات جذرية تؤثر على المصادر المعروفة والمعتمدة كمرجع أساسي للمستخدمين.ويشهد على ذلك؛ تراجع زيارات ويكيبيديا، نتيجة التحولات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في سلوكيات البحث والحصول على المعلومات، فيما يلي سنتعرف على هذه الظاهرة، وسبب الانخفاض في عدد الزوار الحقيقيين، والتحديات التي تواجه الموسوعة، مع رؤية الموسوعة للتكيف مع الواقع الجديد.تراجع زيارات ويكيبيديا: قراءة في الأرقام وراء الظاهرةمنذ سنوات كانت ويكيبيديا تحظى بعدد ضخم من الزيارات اليومية، إذ كانت تتلقى أكثر من 165 مليون زيارة يوميًا في عام 2022. لكن دراسة بيانات حركة المرور الرقمية الحديثة أظهرت أن هذه الأرقام انخفضت بشكل كبير مع مرور الوقت، وبحلول مارس 2025، انخفض عدد الزيارات اليومية إلى أقل من 128 مليون زيارة، مسجلة بذلك تراجعًا بنسبة 23% خلال ثلاث سنوات فقط. ولتوضيح حجم التراجع، تفقد ويكيبيديا أكثر من 1.1 مليار زيارة شهريًا، وهو رقم يعادل خسائر المواقع الكبرى في حجم زياراتها الشهرية.مؤخرًا كشفت مؤسسة ويكيميديا أن جزءًا من هذا التراجع يعود إلى إعادة تصنيف حركة المرور التي ظنها بشرية، والتي تبين أنها في الحقيقة روبوتات معقدة تحاكي الزيارات البشرية، خاصة تلك المنبعثة من مناطق مثل البرازيل. بعد تحديث أنظمة كشف الربوتات في مايو 2025، اكتشفت الموسوعة أن الكثير من الزيارات التي كانت تظنها بشرية في الواقع جاءت من روبوتات تجمع المحتوى، والذي أظهر أن عدد زيارات المستخدمين البشر انخفض فعليًا بنحو 8% خلال النصف الأول من 2025.كيف يغير الذكاء الاصطناعي طريقة حصولنا على المعرفة؟تشير تحليلات الخبراء إلى أن تراجع زيارات ويكيبيديا ينبع بشكل رئيسي من انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، التي تقدم إجابات مباشرة للمستخدمين دون الحاجة للانتقال إلى المواقع الأصلية.فقد بدأت محركات البحث خاصة جوجل، في تضمين ملخصات الذكاء الاصطناعي المعروفة بـ AI Overview في نتائج البحث، والتي تعرض إجابات مختصرة ومباشرة للمستخدمين.وفقًا لتقارير مؤسسة بيو للأبحاث، تراجعت معدلات النقر على نتائج البحث التقليدية من 15% إلى 8% في حال ظهور هذه الملخصات، والذي يعني أن أغلب المستخدمين يحصلون على إجاباتهم دون الحاجة لزيارة ويكيبيديا أو غيرها من المصادر، يضيف هذا التوجه ضغوطًا إضافية على مواقع المحتوى الأصلي ويعيد تشكيل مسارات استهلاك المعرفة على الإنترنت. كما أن الأجيال الشابة أصبحت تفضل البحث عن المعلومات عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل: سبسيال، تيك توك، ويوتيوب من خلال مقاطع الفيديو القصيرة بدلًا من الاعتماد على المقالات النصية التقليدية، وهو تحول يصعب على ويكيبيديا تجاوزه بسهولة.تأثير تراجع زيارات ويكيبيديا على استمرارية الموسوعةتشكل الزيارات البشرية حياة ويكيبيديا، فهي محور استمراريتها من خلال ثلاثة ركائز: المتطوعون، التمويل، والبنية التحتية. مع تراجع الزيارات البشرية لها، ينخفض عدد المتطوعين الذين يقومون بتحرير وتحديث المحتوى، الأمر الذي يؤثر سلبًا على جودة ودقة المعلومات المقدمة. فموسوعة تعتمد بشكل أساسي على مساهمات بشرية من كل أنحاء العالم، وتراجع هذه المساهمات قد يُهدد حيادية وعمق الموسوعة.كما تعتمد على التبرعات الفردية لدعم تكاليف تشغيل الخوادم وصيانة المنصة، ومن المتوقع أن يؤدي تقليل الزيارات إلى رسم صورة تقلل من حجم الدعم المالي، والذي قد يفرض قيودًا على قدرات المؤسسة في تأمين ورفع جودة الخدمة.تؤدي روبوتات الذكاء الاصطناعي إلى زيادة استهلاك موارد الإنترنت للبنية التحتية لموقع ويكيبيديا، حيث أبلغت مؤسسة ويكيميديا عن ارتفاع بنسبة 50% في استهلاك عرض النطاق الترددي منذ يناير 2024، مع أن روبوتات الذكاء الاصطناعي تمثل أكثر من 65% من حركة المرور الأعلى تكلفة، ليشكل ذلك عبئًا ماليًا وتشغيليًا إضافيًا يزيد من صعوبة إدارة الموقع.التحديات القانونية والأخلاقية حول استخدام محتوى ويكيبيديا في الذكاء الاصطناعييمثل استخدام محتوى ويكيبيديا كمصدر رئيسي لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي عملية مثيرة للجدل. فبينما يستفيد الذكاء الاصطناعي من ثراء المحتوى الحر للموسوعة لتقديم إجابات سريعة ودقيقة، تعاني ويكيبيديا من فقدان حركة المرور الحقيقية وبالتالي تهديد استدامتها. وتسعى مؤسسة ويكيميديا إلى حوار مع شركات الذكاء الاصطناعي لتحسين أساليب استخدام المحتوى، والعمل على بروتوكولات توضح حقوق الاستخدام وتشجع على توجيه المستخدمين إلى المصادر الأصلية.والهدف الأساسي هو الحفاظ على موسوعة حية ومتجددة تخدم ملايين المستخدمين بدون أن تتحول إلى مجرد مستودع بيانات يستغل دون مردود.مستقبل ويكيبيديا في عصر الذكاء الاصطناعيتراجع زيارات ويكيبيديا ليس عائقًا بقدر ما هو فرصة لإعادة صياغة تجربة المعرفة المفتوحة، فقد وضعت مؤسسة ويكيميديا خططًا إستراتيجية لما بعد 2030 لتعزيز جودة المحتوى، جذب مساهمين جدد، وتحسين التقنيات التي تمكن المستخدمين من التفاعل بطريقة أكثر سهولة وفعالية.تتضمن الخطة تطوير أدوات جديدة تمكن المحررين من استخدام الذكاء الاصطناعي كمساعد في الكتابة والتحرير، بدلاً من أن يكون عائقًا أمامهم، كما تحاول تنويع مصادر التمويل وزيادة الوعي بأهمية دعم الموسوعة، تحت شعار "المعرفة الحرة للجميع".على صعيد أوسع، من المتوقع أن تتغير معالم النظام البيئي للمعلومات، حيث ستتعاون ويكيبيديا مع منصات البحث وشركات الذكاء الاصطناعي لتعزيز الوصول إلى المعرفة مع الحفاظ على حقوق المحتوى وحقوق المستخدمين.في الختام، يمثل تراجع زيارات ويكيبيديا انعكاسًا لتحولات عميقة في بيئة المعرفة الرقمية، حيث أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي الجديدة تقدم المحتوى بأساليب سريعة ومباشرة تقلل من الحاجة للولوج إلى المصادر التقليدية. ورغم هذه التحديات، فإن ويكيبيديا تظل ركيزة أساسية للمعرفة الحرة، ومع إستراتيجيات تطوير محتوى دائمة التعاون، والإصرار على تمكين المستخدمين من التفاعل، يمكن الحفاظ على موقعها بوصفه منارة رقمية لا غنى عنها للمعلومات الدقيقة والموثوقة في المستقبل.